على مدار التاريخ البشري٬ أمر شغل ولا يزال يشغل المفكرين والعلماء: ما الإبداع؟ سؤال قد يبدو للوهلة الأولى بسيطاً٬ لكن يكفيك أن تعلم أن علماء هذا المجال المعاصرين يتفقون جميعاً على عدم وجود اتفاق عام حول ماهية الإبداع. قبل البدء بالحاضر (أي ما تقترحه الدراسات الحديثة حول الإبداع) لا بد من الحديث عن الماضي (تاريخ دراسة الإبداع) ٬ ذلك أن فهم الماضي غالباً ما يؤدي إلى فهم أفضل وأعمق للحاضر والمستقبل فيما يتعلق بهذا العلم الحديث نسبياً (أو غيره من العلوم). هنالك أكثر من تقسيم لتاريخ دراسات الإبداع٬ وهنا أميل لتقسيمه (أي التاريخ) إلى قسمين: ١) الابداع قبل نشوء مفهوم البحث العلمي٬ و٢) الإبداع بعد انبثاق مفهوم البحث العلمي
أولاً: الإبداع قبل نشوء مفهوم البحث العلمي
إسهامات الإغريق والرومان
قام رنكو وألبرت بعمل أكثر من جيّد عندما استعرضا تاريخ دراسة الإبداع في الفصل الأول من كتاب "م كامبردج للإبداع" ٬ حيث يذكران "إن فحص تاريخ دراسات الإبداع يشير إلى أن الكثير من الأفكار والقضايا المتعلقة بالإبداع تمت مناقشتها حرفياً لمئات السنين" . هنا يقسم الباحثان تاريخ دراسة الإبداع إلى الفترة ما قبل المسيحية٬ والفترة التي تلت ظهور الديانة المسيحية٬ وفترة ما يعرف بعصر النهضة. وهنا أجد من المهم إضافة حقبة مهمة من التاريخ امتدت لأكثر من ألف عام٬ وهي الحقبة الإسلامية
يمكن القول بأن أول من اهتم بالظواهر العقلية وبمحاولة فهم الفروق الفردية بين البشر هم علماء الإغريق. في ذلك الوقت٬ لم يكن مصطلح "الإبداع" متداولاً٬ لكن مصطلحاً آخر ذو علاقة وهو "العبقرية" كان يشغل كلاً من أرسطو وأفلاطون وغيرهم من علماء ذلك العصر. في ذلك الوقت٬ كانت العبقرية تفسر بظواهر لا مادية (ميتافيزيقية)٬ حيث كان الإغريق يتصورون أن للعبقري روحاً حارسة—التصور الذي لم يساعد على فهم الإبداع٬ حيث أن الإبداع أو العبقرية حسب وجهة النظر هذه هي نتاج لمؤثر خارجي وليس للفرد فيها دور٬ وبالتالي فمن الصعب دراسة هذه الظواهر وإخضاعها للبحث. وفي فترة أرسطو ارتبط الإبداع بالإلهام الخارجي والجنون. أما الرومان فقد اعتقدوا أن الإبداع هو قدرة يمتلكها الرجال اللامعون وينقلها المبدع لأبنائه٬ أي أن الإبداع هو قضية وراثية ينقلها نخبة (عدد قليل) من الأشخاص إلى أبناءهم. ويمكن تلخيص هذه الحقبة الأولى المندرجة تحت "تاريخ دراسة الإبداع قبل ظهور مفهوم البحث العلمي" بأنه وعلى من الرغم من وجود الاهتمام بمفهوم العبقرية وإدراك الفروق الفردية بين البشر٬ إلا أن التفسير غير العلمي للظاهرة لم يساعد على الدراسة العلمية لها٬ حيث ليس للفرد العبقري أو المبدع أي دور في ابداعه٬ فهو إما نتيجة لقوى خارجية لا مادية (الروح الحارسة)٬ وإما نتيجة وراثية٬ فالعبقرية والإبداع ينتقلان من الرجل المبدع إلى أبنائه وهذا مقتصر على عدد قليل من أفراد المجتمع٬ أو أن العبقرية والإبداع هما نوع من أنواع الجنون—النظرة التي لا زالت قيد الحياة إن صح التعبير٬ حيث لا يزال الكثير من العلماء في الوقت الحالي يؤمنون بوجود ارتباط بين الإبداع والمرض العقلي٬ وهي القضية التي سوف تتم مناقشتها بشيء من التفصيل في وقت لاحق
الحقبة الإسلامية
الحقبة التاريخية الثانية قبل بروز مفهوم البحث العلمي هي الحقبة الإسلامية التي تكاد مفقودة في أغلب مراجع الإبداع الأجنبية. وقد يكون السبب واضحاً وبديهياً٬ أو لمزيد من الدقة٬ هنالك أكثر من سبب لكن ليس المجال هنا للتفصيل في هذه القضية. وقد اختلفت النظرة الإسلامية للإبداع عن نظرة الإغريق والرومان في عدد من الجوانب٬ كما اتفقت معها في عدد آخر. ومن بين ما تشترك به النظرتين أو التصورين هو أن الإبداع مسألة وراثية٬ فالشاعر المبدع ينجب شاعراً مبدعاً٬ والخطيب المبدع ينجب خطيباً مفوها٬ً وهكذا. فالتراث العربي بعد الفترة الإسلامية يزخر بمقولات مثل "من شابه أباه فما ظلم" و "العصا من العُصية" وغيرُها من المقولات التي تعزز دور الوراثة وانتقال الصفات المميزة من الأب لأبنائه. أما الأمر الآخر الذي تشترك به النظرتين الإسلامية والتي سبقتها هو أن الإبداع في الغالب مقصور على الرجال٬ مع الإقرار بوجود دور أكبر للمرأة في التاريخ الإسلامي مقارنة بفترة الإغريق والرومان
أما ما تختلف أو تتميز به النظرة الإسلامية للفرد المبدع عن سابقتها فيمكن تلخيصه في أمرين: ١) الهدف والغاية من السلوك الإبداعي٬ و٢) الدور النسبي للبيئة في عملية الإبداع. فعلى عكس نظرة الإغريق والرومان٬ كان المسلمون يؤمنون أن الإبداع يتجاوز الفرد المبدع٬ فالهدف منه هو خدمة المجتمع٬ وكلما كان إبداع الفرد موجهاً نحو مجتمعه٬ كلما زادت قيمة إبداعه. وفي هذا يشترك المسلمون مع النظرة الشرقية في أن الإبداع يجب أن يكون مسخراً لخدمة المجتمع مقابل وجهة النظر الغربية التي تركز على الفرد المبدع. فعلى سبيل المثال٬ لا يختلف اثنان على عبقرية وإبداع خالد بن الوليد—الرجل الذي أُلّفت حوله الكُتب ولا تزال بعض نظرياته في التخطيط العسكري تدرّس حتى الآن. هل عُرف إبداع خالد بن الوليد قبل الإسلام أم بَعده؟ من المؤكد أنه كان مبدعاً قبل وبعد دخوله للإسلام٬ لكنه اشتهر بإبداعه بعد دخوله في الإسلام٬ ذلك أن إبداعه كان مسخراً لخدمة المجتمع. لاحظ/لاحظي أنني استخدمت مصطلح "مبدع" عن هذه الشخصية (قد يستخدم البعض مصطلح موهوب أو عبقري) وسوف أعطي مثالاً على دقة هذا الوصف
بحسب عبد الله وكراموند (2017) فإن أغلب تعريفات الإبداع تتفق على أهمية توفر عنصرين أ محكين للحكم على الشخص أو المنتج الإبداعي وهما الأصالة والفاعلية أو الملائمة. كما يرى سايمونتون (2012) ضرورة إضافة عنصر المفاجأة لتعريفات الإبداع. فهل توفرت هذه العناصر في شخصية خالد بن الوليد؟ حسناً٬ سوف أكتفي بقصة عبور خالد بن الوليد صحراء السماوة لنجدة المسلمين في الشام٬ وهو الطريق الذي لم يسلكه جيش قط٬ نظراً لعدم وجود موارد للمياه٬ لوعورته٬ وبسبب درجات الحرارة المرتفعة فيه. وتتجلى الأصالة هنا في الفكرة بحد ذاتها٬ فالجيوش في ذلك الوقت كانت تسلك طريقاً آخر (ما وراء النهرين) للانتقال من العراق إلى الشام٬ ولم يمر جيش قط صحراء السماوة بحسب الطبري (انظر لتاريخ الطبري)٬ وكان الهدف من ذلك كله أمران: اختصار الوقت وكسب عنصر المفاجأة. أما فاعلية الفكرة فتتجلى في نجاح خالد ومن معه في اختصار الطريق والوصول إلى الجيوش المسلمة المرابطة في الشام في أسرع وقت. أما عنصر المفاجأة فقد كان أكثر ما حسم معركة المسلمين مع الروم٬ حيث لم يدر ببال الروم أن أي مدد قد يأتي عن طريق الشمال. وفي ذكر الأفراد المبدعين في التاريخ الإسلامي ما يحتاج إلى موسوعة بحد ذاتها. وقد قام سايمونتون بتحليل تاريخي للمبدعين في المجالات العلمية في التاريخ الإسلامي من العام 60 وحتى العام 1119 للهجرة (انظر للمراجع)٬ وقد شملت هذه المجالات علماءَ مسلمين في الفلسفة والجغرافيا والكيمياء والطب والرياضيات٬ وغيرها من حقول العلم
الأمر الآخر الذي ميز الحضارة الإسلامية عن حضارة الإغريق فيما يتعلق بالإبداع هو دور البيئة والتعلم. ويظهر هذا جلياً في عدد من الأحاديث الشريفة وفي أقوال علماء المسلمين العظام كابن سينا والرازي وغيرهم. فالإبداع حسب وجهة النظر الإسلامية ليس قدرة ثابتة وإنما هو استعداد فطري يعززه التعلم والممارسة. ويكفينا ذكر دور البيئة التي نشأ فيها الإمام أحمد بن حنبل وكيف اكتشفت أمه صفية الشيبانية نبوغ ابنها وهو لا يزال طفلاً فاهتمت به وحرصت على تعليمه وكانت تأخذه لمجالس كبار العلماء حتى يتعلم على أيدهم. لكنه وعلى الرغم من اهتمام المسلمين بالإبداع والمبدعين (تذكر على سبيل المثال العالم المجري الذي تبناه محمد الفاتح وصنع أعظم مدفع في القرن الخامس عشر) ٬ إلا أن الإبداع لم يدرس بشكل علمي يتيح فهم الفرد المبدع والسلوك الإبداعي في تلك الحقبة.
الإبداع في عصر النهضة
عصر النهضة الأوروبية الذي امتد بين القرن الرابع عشر والسابع عشر للميلاد زخر بالعديد من الأفراد المبدعين كليوناردو دافنشي٬ مايكل انجلو٬ ووليام شكسبير٬ وغيرهم من الأسماء التي لا يتسع المجال لحصرها هنا. حيث كان مايكل أنجلو نحاتاً ورساماً مبدعاً٬ كما كان معمارياً وشاعراً٬ ويعتبر واحداً من أعظم الشخصيات على مدار الحضارة الغربية. وكذلك كان دافنشي رساماً ونحاتاً ومعمارياً ومهندساً وهو بحسب كوزبلت (انظر للمراجع)٬ العالم الوحيد على مدار التاريخ الغربي الذي ربط الفن بالعلم٬ ولا تزال لوحته الأعظم شاهدة على إبداعه (الموناليزا). أما شكسبير فأبدع في الأدب والكتابة المسرحية والشعر والتمثيل وانتاجاته المبدعة لا يمكن حصرها في هذه السطور. ويمكن القول بأن عصر النهضة الأوروبية يشترك مع عصر النهضة الإسلامية في ظهور عدد من المبدعين المؤثرين في زمن محدود٬ وهو ما عبر عنه سايمونتون (2017) (انظر للمراجع) بأن التاريخ أثبت لنا أن المبدعين لا يتوزعون بشكل عشوائي٬ بل يأتون في فترات متقاربة غالباً ما يطلق عليها (العصر الذهبي). وهذه من القضايا التي تستحق التأمل والدراسة: لماذا نجد هذه النزعة في ظهور المبدعين في فترات زمنية متقاربة؟ هل للبيئة دور في ذلك أم أن ذلك يمكن تفسيره حسب نظرية داروين فيما يتعلق بالتباين والاختيار الطبيعي؟ ولريتشارد فلوريدا وجهة نظر جديرة بالتأمل وهي التي طرحها في كتابة "صعود الطبقة المبدعة"٬ وتشير إلى أن مناطق معينة (مُدن) تجذب الأشخاص المبدعين من حول العالم وذلك لتوفر عدد من العناصر المشجعة للإبداع في تلك المدن (فكر في مدينة كاليفورنيا مثلاً والتي تحتضن أكثر من شركة عالمية كأبل وجوجل وهوليوود) . أما ما يختلف به عصر النهضة الأوروبي عن عصر النهضة الإسلامية فهو التركيز على الفردية أو الفرد المبدع في الحضارة الغربية مقارنة بالنظرة الإسلامية والشرقية عموماً والتي تعطي قيمة أكبر للإبداع الجماعي
ثانياً: بروز مفهوم البحث العلمي وإسهامات جالتون وبينيه
لدراسة مفهوم ما بشكل علمي وصحيح٬ ينبغي عليك أولاً أن تُعرّفه بشكل دقيق ومحدد (مثلا: الكتلة هي مقدار ما يحتويه الجسم من مادة). ما الذي يأتي بعد التعريف بالمفهوم؟ الخطوة التالية هي التأكد وإخضاع تعريفك للاختبار عن طريق قياسه (أي وضع مقياس دقيق لقياس الكتلة). لقد زخر الأدب والتاريخ الإنساني بالعديد من التعريفات للقدرات العقلية كالإبداع والذكاء والعبقرية لكن ما كان ينقص البشرية للوصول إلى فهم أوضح وإخضاع الظواهر للدراسة العلمية أمران: ١) كيفية القياس الكمي لهذه الظواهر و٢) استخدام المنهج العلمي لدراستها. ويمكن تحديد تاريخ ولادة مفهوم قياس القدرات العقلية والفروق الفردية بين البشر بنهاية القرن التاسع عشر حين طور فرانسيس جالتون عدداً من المقاييس لقياس الفروق الفردية تركزت في قياس زمن رد الفعل٬ الطول٬ الوزن٬ حدة النظر وغيرها من المقاييس الحسية٬ حيث كان يعتقد جالتون "أنه إذا كانت المعرفة كلها تأتي عن طريق الحواس٬ فإن عقلاً (أكبر) وأذكى يجب أن يكون أولاً قادراً على تمييز أفضل٬ عن طريق الحواس٬ ومن ثم يكون قادراً على تخزين مزيد من معلومات الحواس٬ والتصرف بناءً عليها". لكن يبدو أن منهجية قياس جالتون للفروق الفردية لم تقنع العالم الفرنسي بينيه وزميله سايمون فطوروا عدداً من المقاييس التي لا يزال بعضها يستخدم حتى اليوم وتقوم على قياس عدد من القدرات المعرفية كالذاكرة والإدراك والاستدلال٬ وابتكروا ما بات يعرف بحاصل الذكاء. ومن الأمثلة على الاختبارات التي طورها كل من بينيه وسايمون في مقياسهم الأول للذكاء اختبار المفردات٬ إعادة الجمل٬ التعرف على الاختلافات٬ وتعريف الكلمات المجردة. وقد قام لويس تيرمان بتطوير اختبارات بينيه وسايمون إلى اللغة الإنجليزية وباتت تعرف الآن باختبارات ستانفورد-بينيه . إلا أن هذه الاختبارات وغيرها كانت تركز على ما بات يعرف لاحقاً بالتفكير التقاربي وهو ما سوف أتطرق إليه فيما يلي
ثالثاً: التاريخ الحديث لدراسات الإبداع: إسهامات جيلفورد وتورانس
يتفق غالبية علماء الإبداع بأن الميلاد الحقيقي لهذا العلم كان في العام 1949 عندما ألقى جيلفورد خطابه الرئاسي للجمعية الأمريكية لعلم النفس٬ والذي نشر في العام 1950. في بداية خطابة٬ يقول جيلفورد "أناقش موضوع الإبداع مع قدر كبير من التردد كونه يمثل مجالاً يخشى أن يتتبعه أغلب علماء النفس٬ سواء أكانوا ملائكة ام لا. فمن حوالي 121,000 مقالاً منشوراً في مجلة الملخصات النفسية في الثلاثة والعشرين سنة الماضية٬ خصص 186 مقالاً فقط لدراسة موضوع الإبداع". في السنوات التي تلت ذلك الخطاب٬ تضاعف عدد الدراسات الموجهة لدراسة الإبداع وأصبح الإبداع من المواضيع التي تستحوذ الكثير من الاهتمام ليس فقط في العلوم النفسية والتربوية٬ بل في كافة مجالات النشاط الإنساني كالهندسة والعلوم والرياضة وغيرها من فروع المعرفة. وقد كان لنظرية بناء العقل التي طورها جيلفورد دور مهم في دراسة أحد الأوجه الرئيسية للإبداع وهو التفكير التباعدي. وعلى الرغم من تطوير جيلفورد لعدد من مقاييس التفكير التباعدي إلا أن الإسهام الأكبر في مجال قياس التفكير التباعدي كان لبول تورانس الذي صمم في العام 1966 أول اختباراته للتفكير الإبداعي والذي لا يزال يستخدم إلى غاية اليوم٬ بل ويعد المقياس الأكثر استخداماً في مجال بحوث الإبداع٬ خاصة التي تتناول الإبداع كعملية عقلية. وقد عرف جيلفورد الإبداع بأنه مرادف لحل المشكلات٬ أما تورانس فقدم تعريفاً أكثر شمولاً للإبداع:
الإبداع هو العملية التي يكون من خلالها الفرد حساساً للمشكلات٬ أوجه القصور٬ الثغرات في المعرفة٬ العناصر المفقودة٬ التنافر٬ وهكذا. كما يتضمن التعرف على الصعوبات والبحث عن حلول٬ التخمين٬ صياغة الفرضيات حول أوجه القصور٬ اختبار وإعادة اختبار هذه الفرضيات (وربما تعديل هذه الفرضيات وإعادة اختبارها٬ وأخيراً٬ التواصل مع الآخرين حول النتائج
وخلاصة القول هو أن أكثر ما ساهم في تطور علم ودراسات الإبداع هو تطوير مقاييس لقياس هذه الظاهرة على يد كل من جيلفورد وبول تورانس وبهذا أمكن الباحثين من اختبار تعريفاتهم ونظرياتهم حول الإبداع والتفكير الإبداعي.
بعد ستة عقود من الدراسة المنظمة للإبداع: ما الذي نعرفه عن تعريف الإبداع؟
كأي علم من العلوم٬ تحتاج دراسات الإبداع إلى تلخيص لأبرز مظاهر وجوانب التحديث التي جرت في السنوات الأخيرة. ومن أجل تحقيق هذا الهدف٬ كان مقال "بعد ستة عقود من الدراسة المنهجية للإبداع: ما الذي يحتاج المعلمون أن يعرفوه حول تعريف الإبداع وطرق قياسه" لعبد الله وكراموند (2017). حيث قام الباحثان باستعراض ما يزيد عن ثلاثين تعريفاً وردت في أبرز مراجع الإبداع٬ والتي اتفقت على أهمية توفر معيارين للحكم على إبداع منتج أو فكرة ما: الأصالة والفاعلية/الملائمة. فعلى سبيل المثال قدم كل من رنكو وتشاند التعريف التالي "يكون التفكير إبداعياً إذا أدى لأفكار أو حلول أو استبصارات أصيلة وتكيفية" . أما جتزلز فعرف التفكير الإبداعي كما يلي
التفكير قد يطلق عليه إبداعياً إذا: ١) كان للمنتج أصالة وقيمة للمفكر أو الثقافة٬ ٢) كان التفكير غير تقليدياً٬ ٣) تمتع التفكير الإبداعي بدافعية واستمرارية عالية٬ أو قوة عظيمة٬ ٤) كانت المشكلة غير واضحة وغير محددة. لذا فإن جزءً من مهمة الفرد هي صياغة المشكلة بحد ذاته
جدير بالذكر أن بحوث الإبداع استخدمت أكثر من معياراً لتعريفه٬ فمنها ما عرّف الإبداع أنه نوع من أنواع حل المشكلات ومنها ما عرف الإبداع بأنه التفكير التباعدي٬ وأخرى عرفت الإبداع بأنه نوع من أنواع إيجاد المشكلة. فيما يتعلق بالإبداع والتفكير التباعدي٬ فقد كان رنكو (2008) صريحاً حين ذكر أن التفكير التباعدي والإبداع ليسا مترادفين. وفي هذا الصدد يشير رنكو أن التفكير التباعدي هو بالفعل ما يتضمنه المصطلح نفسه٬ وهو العملية العقلية التي تقود إلى نتاجات تباعدية ومن أهم نتاجاتها الأصالة في التفكير. لذا٬ فبحسب رنكو فإنه يجب التفكير في اختبارات التفكير التباعدي على أنها مؤشر للإمكانية الإبداعية لدى الأفراد. أما جيلفورد فساوى بين الإبداع وحل المشكلة. بمعنى آخر٬ أن الإبداع يأتي كنتيجة أو رد فعل على وجود مشكلة ما. ومن الجيد القول إن الإبداع هو أكثر من التفكير التباعدي وحل المشكلات٬ حيث أن الكثير من الأعمال الإبداعية ليست نتاجاً لوجود مشكلة ما٬ ويظهر ذلك جلياً في الإبداع في الفنون. فالرسام أو الموسيقي المبدع يؤلف لوحة أو مقطوعة ليس لحل مشكلة٬ بل يعتبر الإبداع في الفنون نوعاً من أنواع التعبير عن النفس وتحقيق الذات بتعبير ابراهام ماسلو. السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو هل للإبداع معيارين فقط أم أن هنالك معايير أخرى للحكم على الفكرة المبدعة والمنتج الإبداعي؟
المفاجأة٬ الجمال٬ والأصالة الشخصية: معايير تستحق التأمل
إذا كان علماء الإبداع يتفقون على معياري الأصالة والملائمة فإنهم يختلفون في مدى كفاية هذين المعيارين للحكم على المنتج أو الفكرة الإبداعية٬ كما أنهم يختلفون في المعايير الأخرى التي يجب أن تضاف لتعريفات الإبداع. في العام 2012 نشر سايمونتون مقالاً زعم من خلاله ضرورة إضافة معيار "المفاجأة" ليكون تعريف الإبداع شاملاً وأكثر دقة. ويحدد مكتب براءات الاختراع الأمريكي ثلاثة معايير للحكم على الأفكار والمنتجات الإبداعية هي الأصالة/الحداثة٬ الفاعلية/الفائدة٬ وعدم الوضوح وهو ما يشير إليه سايمونتون بالمفاجأة. كما اقترح كاركورن (2014) تعريفاً للإبداع يشمل أربعة معايير هي الأصالة٬ الفاعلية٬ الجمالية٬ وما قد يطلق عليه الأصالة الشخصية٬ وتعني الشعور الداخلي للفرد المبدع عند مروره بخبرة الإبداع والمعنى الجديد الذي تضيفه هذه الخبرة للشخص المبدع. بمعنى آخر بحسب كاركورن٬ فإنه لا يكفي أن تكون الفكرة أو المنتج أصيلة (جديدة) وفعالة٬ بل يجب أن تتسم بالجمال وأن تضيف شيئاً جديداً للفرد المبدع. انظر على سبيل المثال إلى الهواتف الذكية٬ قد يتضمن هاتف ما ميزة لا تتوفر في غيره من الهواتف وهي ميزة جديدة وفعّالة٬ إلا أن الهاتف قد لا يجذب المستهلكين بسبب عدم الاعتناء بعنصر "الجمال" والجاذبية مقارنة بغيره من الهواتف التي قد تركز على المميزات الجديدة والأصيلة والجمالية في آن واحد. وعلى الرغم من منطقية طرح كل من سايمونتون وكاركورن إلا أن هنالك حاجة لمزيد من الدراسات لإضافة معيار ثالث وربما رابع لتعريفات الإبداع
تعريفات الإبداع: الخلاصة
لقد اهتم البشر منذ مئات السنين بدراسة وبمحاولة فهم المبدعين والسلوك الإبداعي٬ حيث وجد العديد من الأفراد المبدعين والمنتجات الإبداعية على مر التاريخ٬ إلا أن تطور مفهوم البحث العلمي أعطى الصبغة العلمية لفهم العمليات العقلية التي تؤدي إلى نتاجات مبدعة ودراسة الأفراد المبدعين بضبط كبير وبأساليب إحصائية متنوعة كمّية وكيفية. الأمر الآخر الذي أدى إلى تطور علم الإبداع هو تطوير عدد من المقاييس التي تتسم بالصدق والثبات لقياس هذه الظاهرة من قبل عدد من العلماء أبرزهم جليفورد وتورانس. ورغم اختلاف علماء الإبداع في التعريف الأشمل له٬ إلا أنهم يتفقون جميعاً على ضرورة توفر معيارين هما الأصالة والفاعلية للحكم على إبداع فكرة أو منتج ما. أما الاختلاف فيبرز في السؤال التالي: هل هذان المعياران كافيان لتعريف الإبداع؟ لذا اقترح عدد منهم (أي علماء الإبداع) معايير أخرى منها القيمة والجمالية والأصالة الشخصية والمفاجأة٬ وهي معايير تحتاج لمزيد من الدراسة حتى تكون جزءً أساسياً من أي تعريف للإبداع
من الجيد الإشارة هنا إلى أهمية السياق الثقافي في تعريف الإبداع٬ فما قد يُعتبر فكرة إبداعية في ثقافة ما٬ قد أو وقد لا يعتبر كذلك في ثقافة أخرى. وسوف يتم التطرق إلى قضية السياق الثقافي للإبداع في مقالات لاحقة. الأمر الآخر الذي يجب أن يأخذ بعين الاعتبار عند تعريف الإبداع هو مستويات للإبداع. فهنالك الإبداع اليومي٬ وهنالك الإبداع الكبير والذي يمكن توضيحه بالأشخاص البارزين كأينشتاين وشكسبير وامرؤ القيس وابن سينا وغيرها من الأمثلة للأفراد المبدعين تاريخياً. أخيراً٬ فمن الضروري عند تعريف الإبداع الحديث عن "أوجه" أو "جوانب" الإبداع المختلفة وهي العملية الإبداعية ٬ الشخصية المبدعة٬ المنتج الإبداعي٬ والبيئة الإبداعية. كل هذه القضايا سوف تتم مناقشتها بشيء من التفصيل في مقالات لاحقة بإذن الله
المراجع
Abdulla, A. M & Cramond, B. (2017). After six decades of systematic study of creativity: What do teachers need to know about what it is and how it is measured? Roeper Review, 39(1), 9-23.
Florida, R. L. (2012). The rise of the creative class, revisited. New York: Basic Books.
Getzels, J. W. (1975). Creativity: Prospects and issues. In I. A. Taylor & J. W. Getzels (Eds.), Perspectives in creativity (p. 326-344). Chicago: Aldine.
Guilford, J. P. (1950). Creativity. American Psychologist, 5, 444–454.
Kaufman, J. C., & Sternberg, R. J. (2010). The Cambridge handbook of creativity. Cambridge University Press.
Kharkhurin, A. (2014). Creativity.4in1: Four-criterion construct of creativity. Creativity Research Journal, 26(3), 338-352.
Kozbelt, A. (2011). Michelangelo 1475–1564. In M. A. Runco & S. R. Pritzker (Eds.), Encyclopedia of creativity (pp. 120-125). San Diego, CA: Academic Press.
Runco M. A. (2008). Commentary: Divergent thinking is not synonymous with creativity. Psychology Of Aesthetics, Creativity, And The Arts, 2(2), 93-96.
Runco, M. A., & Albert, R. S. (2010). Creativity research: A historical view. In J. C. Kaufman & R. J. Sternberg (Eds.), The Cambridge handbook of creativity (pp. 3-19). New York, NY, US: Cambridge University Press.
Runco, M. A., & Chand, I. (1995). Cognition and creativity. Educational Psychology Review, 7(3), 243-267.
Shlain, L. (2011). Leonardo da Vinci 1452–1519. In M. A. Runco & S. R. Pritzker (Eds.), Encyclopedia of creativity (pp. e17-e22). San Diego, CA: Academic Press.
Simonton, D. K. (2012). Taking the U.S. Patent Office criteria seriously: A quantitative three-criterion creativity definition and its implications. Creativity Research Journal, 24(2/3), 97-106. doi:10.1080/10400419.2012.676974
Simonton, D. K. (2016). Scientific genius in Islamic civilization: Quantified time series from qualitative historical narratives. Journal of Genius and Eminence, 1, 4–13.
Simonton, D. K. (2017). Intellectual genius in the Islamic Golden Age: Cross-civilization replications, extensions, and modifications. Psychology Of Aesthetics, Creativity, And The Arts, doi:10.1037/aca0000110
Torrance, E. P. (1966). The Torrance Tests of Creative Thinking-Norms-Technical Manual Research Edition-Verbal Tests, Forms A and B-Figural Tests, Forms A and B. Princeton, NJ: Personnel Press.